الخبر المغربي/ متابعة نورالدين لماع
قال محمد بنطلحة الدكالي أستاذ علم السياسة والسياسات العمومية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة القاضي عياض بمراكش إن استراتيجية الردع تقوم على تغيير حسابات الخصم للتكلفة والفوائد والمخاطر مضيفا أن منع نشوب الحرب ليس الهدف الوحيد للردع؛ بل يجب أن تكون الدول المدافعة قادرة على مقاومة المطالب السياسية والعسكرية لدولة مهاجمة محتملة.
ودعا الأكاديمي ذاته ضمن مقال توصلت به الجريدة معنون بـ”استراتيجية ردع الخصوم” صناع استراتيجيات الردع إلى التفكير في سيكولوجية اتخاذ القرار من طرف الخصوم في ظروف الخطر واستحضار نظرية المدرسة السلوكية في العلاقات الدولية خاصة في ظل أنظمة اللامؤسسات أي أنظمة شمولية وعسكرية.
وهذا نص المقال :
كتب برنارد برودي أحد واضعي الاستراتيجية النووية الأمريكية قائلا : «حتى الآن كانت الغاية الأساسية لمؤسستنا العسكرية هي كسب الحروب لكن من الآن فصاعدا يجب أن يكون هدفها تفاديها”.
هكذا سار صانعو السياسات الأمريكيون على خطى برودي واضعين الردع ومنع الخصوم من الهجوم في قلب الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية لأن الحرب لن يخرج منها أي أحد منتصرا.
وقال الرئيس الأمريكي : «أبانت أزمة الصواريخ الكوبية أنه حتى ثمار النصر ستكون رمادا في أفواهنا». إن استراتيجية الردع هدفها ثني الخصوم عن القيام بعمل لم يبدأ بعد من خلال التهديد بالانتقام أو إجباره على القيام بشيء تريده دولة ثانية حيث إن الاستراتيجية العسكرية لم يعد من الممكن تعريفها بأنها علم الانتصار العسكري بل أصبحت تدخل ضمن فن الإكراه والتخويف والردع.
ولقد عرف الجنرال الفرنسي أندريه بوفر الردع بأنه «منع دولة معادية من اتخاذ قرار باستخدام أسلحتها أو بصورة أعم منعها من العمل أو الرد إزاء موقف معين باتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي تشكل تهديدا كافيا حيالها». ويعد بول هات من أبرز الكتاب الاستراتيجيين الأمريكيين في نظرية الردع ويعرفه بأنه «محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب ومصالح الدولة الأولى”.
ونجد أن استراتيجية الردع تقوم على تغيير حسابات الخصم للتكلفة والفوائد والمخاطر وتسمى هذه الاستراتيجية بردع الحرمان أو قد يستطيع إقناع خصومه بأن انتصارهم سيكون مكلفا وتسمى هذه الاستراتيجية بردع العقوبة.
ويمكن أن تندرج سياسة الردع في فئتين عريضتين : منع هجوم مسلح ضد أراضي الدولة (المعروف باسم الردع المباشر) أو منع هجوم مسلح ضد دولة أخرى (يعرف بالردع الموسع).
إن منع نشوب الحرب ليس الهدف الوحيد للردع ؛ بل يجب أن تكون الدول المدافعة قادرة على مقاومة المطالب السياسية والعسكرية لدولة مهاجمة محتملة. كما أن الدول المدافعة تحتاج إلى القدرة العسكرية للاستجابة وبقوة لمجموعة من الحالات الطارئة ؛ لأنه غالبا ما يفشل الردع إذا قللت الدولة المدافعة أو المهاجمة من تقديرها أو بالغت في تقديرها لقدرة الطرف الآخر على اتخاذ مسار معين. لذا تجب معرفة الخصم معرفة جيدة وتجميع المعلومات الدقيقة الخاصة به والعمل على تحسين القدرات البشرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية… وضرورة تقوية الالتحام الشعبي وإذكاء الروح الوطنية وترسيخ الاعتزاز بالهوية والانتماء إلى الوطن.
ويعتمد منطق الردع كذلك على أن يضع في الحسبان ما تشير إليه أبحاث في علوم الإدراك من أن بعض الخصوم السياسيين يميلون إلى المخاطرة في مواجهة الفشل في بيئة شديدة العدوانية أو أن الخصم الذي يواجه خطر احتمال اندلاع أزمة داخلية قد يرى أنه من الأسلم له أن يبدأ بالهجوم … إذ توصلت البحوث في العلوم الإدراكية إلى أن البيئة الثقافية والاجتماعية للمرء لها تأثير كبير على عملياته الإدراكية من بينها الكيفية التي يفهم بها الناس الإنصاف أو التكلفة أو المنفعة أو المخاطر لذا يجب على صناع استراتيجيات الردع التفكير مليا في سيكولوجية اتخاذ القرار من طرف الخصوم في ظروف الخطر . كما يجب استحضار نظرية المدرسة السلوكية في العلاقات الدولية خاصة في ظل أنظمة اللامؤسسات أي أنظمة شمولية وعسكرية.
هاته الأنظمة يمتلكها جنون مرضي للعظمة ينهل من جيوسياسة ميتافيزيقية حتى تستطيع أن تتوهم أنها قوة لا تقهر مما يحجب عنها التفكير في مآلات الحرب وهو ما يسمى في علم الاستراتيجية العسكرية “ضباب الحرب”، وهو من أهم نظريات الحرب الشهيرة عند المفكر الإستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز تلك المسماة «ضباب الحرب» (Fog oF War)، وتتمثل في أن للحروب مفاجآت لا يمكن أن تراها قبل حصولها. لذا تأتي المرونة في تغيير الخطط لمعالجة التغيرات الطارئة وللتقليل من فداحة أخطائها بما في ذلك المستوى السياسي والاستراتيجي العسكري لأن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية رغم توفر المعلومة الاستخباراتية والتي قد تكون تضليلية في بعض الوقائع والمعطيات…
إن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية وبالتالي الحرب عند كلاوزفيتز ظاهرة لاخطية تسودها حالة من اللايقين حيث إن التعامل معها بنفس الأدوات المستخدمة في الظواهر الخطية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة عكس المدرسة العسكرية التي ترى أن الحرب ظاهرة خطية (Linear) قائمة على ما هو ملموس ويمكن التحكم بمجرياتها كما أنها قابلة للحساب أي ينظر إليها باعتبارها ظاهرة يمكن التنبؤ بنتائجها لكن كلاوزفيتز اتهم هؤلاء المنظرين بالدوغمائية والانفصال عن واقع الحروب حيث لا يمكن التيقن من أي شيء وحيث يجب أن تكون الرياضيات قائمة على مجموعة غير محصورة من المتغيرات.
إن التفكير في استنزاف روح «العدو» مثلا عن بعد وبعد ذلك الدخول الآمن والنصر المبين… كثيرا ما يؤدي هذا التفكير إلى الدخول في مستنقع يصعب الخروج منه بل إن آثاره قد تكون مكلفة في العتاد والبشر وفي رسم المستقبلات (Les futurs) وهي نادرا ما تنجح. لقد عَلّمنا التاريخ والوقائع العسكرية أن المملكة المتحدة، مثلا خلال الحرب العالمية الثانية تحملت سنوات من القصف العشوائي من الطائرات الألمانية من أجل إجبارها على الاستسلام لكن البريطانيين حوّلوا ما وصفه رئيس الوزراء وينستون تشرشل بـ«الساعة الأسوأ» إلى أفضل وقت بحوزتهم كما أن القصف المستمر الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية ضد فيتنام الشمالية لم يجعل شعب هذه الأخيرة يفكر في الاستسلام.
إن الضرب عن بعد يؤدي فعلا إلى تدمير البنيات وإزهاق الأرواح ما يؤدي إلى الإحساس بالعظمة والتفوق لكن دروس التاريخ تعطينا أكثر من مثال أن الخصم كان يهيأ لفخ منصوب.
إن «ضباب الحرب» يخالف التصور والتصميم المسبق الموغل في الإفراط في الثقة بالقوة والنفوذ؛ لأنه يساهم في ترجيح كفة من ينفث دخانه، إنه نواة الحرب وركن بنيتها.
إنه في بعض الأحيان يمكن أن يكون ما يأتي بعد الحرب أسوأ من الحرب نفسها لأن الحرب جزء من سلسلة متصلة تشمل الاقتصاد والتجارة والدبلوماسية والتحالفات وتبديل المواقع… وكل التفاعلات الأخرى التي تقع بين الشعوب والحكومات. وبذلك يتحدى كلاوزفيتز النظريات السابقة التي كانت تنظر إلى الحرب بوصفها «حدثا يبدأ ثم ينتهي”.
إن الإستراتيجية كما يعرفها المفكر الفرنسي أندري بوفر، هي فن الحوار بين إرادتين متضادتين تستخدمان القوة لحل خلافاتهما. وهذا التعريف يحيل إلى كون الإستراتيجية «فنا» ليخرجها من خانة العلم والإدراك الجازم النظري ليجعلها تفكيرا إبداعيا يسعى إلى إيجاد الحلول، وفكرا «ميتا معرفي» (Metacognitive) يطرح تساؤلات وفرضيات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلا.
إن الإستراتيجية تعلمنا أن نسعى إلى التعامل مع المستقبل غير معتمدين على التفكير المنطقي الصوري الخطي الذي تحدد مقدماته نتائجها اعتمادا على القوة والحشود بل تعتمد على ضرب من التفكير الانعكاسي (Reflexive thinking) الذي ينطلق من تخيل صورة المستقبل المرغوب فيه إلى الحاضر معتمدة في ذلك على إعداد مجموعة سيناريوهات.
إن التفكير من طرف أي قوة بهزم «العدو» وإلحاق الأذى بقاعدته الاجتماعية وربما تغيير الخرائط وفرض السلم المشروط من أجل خلق واقع جديد دون استحضار واقع البيئة المحيطة وتكوينها العقدي والإثني… إن ذلك يحيل إلى بيئة ضبابية يقاربها الإستراتيجيون بنظريتين : «نظرية الفوضى» (Chaos theory) ونظرية التعقيد (Complexity theory) اللتان تصوران بدقة جوهر سلوك البيئة الاستراتيجية المعروف بسماته الأربع : التقلب التوجس التعقيد والغموض .
إن ضبابية الحرب حسب كلاوزفيتز هي كالفرق بين الحرب على الورق والحرب الفعلية.. ومن المستحيل في كثير من المواقف والمحطات أن تتطابق الخطط المعدة على الورق في مراكز العمليات مع ما يدور واقعيا على الميدان لأن الحرب ميدان مجهول ولا يمكن التكهن بصورة حسابية بنتائجها وآثارها على الشعوب حيث تترك ندوبا يصعب إزالتها.. وهي ليست نزهة بطبيعة الحال.